كلما قرأت مقالاً للدكتور محمد عبدالملك المتوكل أجدني أشعر بكثير من الإشفاق نحوه، فهو ومنذ عدوان نظام الجمهورية العربية اليمنية على شعبنا في الجنوب عام 1994، يعمل بلا كلل ولا ملل لتبرير ذلك العدوان وحجب حق شعبنا في الجنوب في قول كلمته وتقرير مصيره. ولمَ لا والمتوكل كان عضواً رئيسيا في موكب رئيسه يتنقل معه في الأراضي الجنوبية بعد " الفتح ". ولم يتردد الدكتور عن رد الجميل فكرّس سلسلة من مقالات المديح يشيد فيها بأخلاق رئيسه ابن " القرية" المحافظ على الأصالة والعادات القبلية الرائعة وهو ما استفزّ المفكر الكبير الدكتور أبوبكر السقاف فردّ عليه حينها في مقاله الشهير" الساحم والباغم في موكب الحاكم"..
ولمزيد من التوضيح لأبناء الجنوب الحر وخاصة الجيل الشاب الذي لم يكن يعرف حينها مايدور، نقول إنه في الوقت الذي كان المتوكل يتمخطر في موكب رئيسه على أرضنا الجنوبية كان مناضلونا وعلى رأسهم شيخهم البطل حسن أحمد باعوم يعيشون متخفين هروباً من المطاردات البوليسية والإعتقالات والسجون. نعم، كان ذلك هو الحال. ولم يشعر الدكتور الموقر بأدنى شعور بالعيب والخجل حين كان يتلذذ بخيرات وطيبات الجنوب على موائد حاكمه بينما صناديد الجنوب وأبطالها مطاردون ومختبئون ومنفيون ومهجرون في كل أصقاع الأرض.
من المؤكد أن الدكتور المبجل كان يخالجه حينها شعور عميق بأن قوات " الشرعية " قد قضت على كل شيء، وأنها اجتثت نظام الجنوب من عروقه، ولم يدر بخلده اطلاقاً أن الجنوب سينتفض في وجوه الجلادين والطغاة وسيسترد حقه ويطرد المحتلين ومرتزقتهم من المثقفين المنافقين.
ومنذ حرب 1994 العدوانية والدكتور يحاول جاهداً أن يساوي بين الطاغية والضحية، بين المعتدي والمعتدى عليه. فما من مرة كتب المتوكل عن تلك الحرب المشئومة الا وصفها بأنها "حرب على السلطة ". هذا هو التوصيف الذي فتح الله به على المتوكل لحرب 1994 الهمجية.
وإذا ماتمعنا في الأمر نرى حالة نادرة من الإنحدار الفكري والإخفاق في التحليل السياسي. فأي حرب ياترى بل أي صراع حتى لو كان سلمياً بين قوى سياسية لايكون على السلطة. إن هذه أحزاب وميدان عملها السياسة، والسياسة ميدانها الحقل المختص بالسلطة العامة في البلد. فعلى ماذا تتصارع الأحزاب السياسية في أمريكا وفرنسا وبريطانيا وروسيا وغيرها من بلاد العالم أليس من أجل الوصول الى السلطة؟ إن هذا أمرٌ مسلمٌ به وهو ليس عيباً ولا جريمة، وإذا لم ينافس الحزب السياسي للوصول الى السلطة فلا يمكن أن يكون حزباً سياسياً. وماذا يعمل المتوكل الآن وحزبه اتحاد القوى الشعبية ومعه المشترك، ألا يسعى للوصول الى السلطة؟
إذاً ماهذا الاكتشاف العظيم الذي يتحفنا به المتوكل حين يقول إن حرب 1994 هي حرب على السلطة؟ إنه حين يقول ذلك فإنه في واقع الأمر يريد أن يخفي الطابع العدواني لهذه الحرب التي شنها نظام صنعاء على الجنوب. إنه يريد أن يساوي بين الطرفين المتحاربين وبهذا ينزع الصفة العدوانية عن نظامه في الشمال وجريمته الحمقاء ضد شعبنا في الجنوب، هذا أولاً.
ثانيا، إن الحرب أوالصراع السلمي على السلطة هو أمر طبيعي ولكن يجب على الباحث النزيه أن يقول ويشرح ماهو غرض كل طرف من طرفي الصراع من الوصول الى السلطة.
إن غرض كل طرف من الوصول الى السلطة هو مايشرحه برنامجه السياسي، وحين اندلعت حرب 1994 كان هناك مشروعان سياسيان أحدهما يهدف الى بناء الدولة وهو المتمثل في وثيقة الإجماع الوطني حينذاك " وثيقة العهد والإتفاق"، والمشروع الآخر كان مشروع الحفاظ على نظام القبيلة في الشمال وتوسيعه ليشمل الجنوب وهو الذي تبناه علي صالح ومشائخه وجنرالاته وحلفاؤه من رجال الدين المتطرفين. أليس هذا ماحدث يادكتور محمد؟ ألم تشتعل الحرب بسبب صراع وتناقض هذين المشروعين؟
حين يقول الدكتور المتوكل إن الحرب هي حرب على السلطة فهو يريد أن يوحي للقارئ بشكل متعمد وغير نزيه بأنها حرب على الكراسي. ياللخزي يادكتور! ألم تكن أنت شخصياً عضواً في لجنة إعداد وثيقة العهد والإتفاق؟ ألم تكن تسمع قادة المؤتمر الشعبي العام يقولون قبل الحرب إن هذه الوثيقة هي وثيقة أمريكية، ثم قالوا عنها بعد الحرب إنها وثيقة الغدر والخيانة؟ ألم تعرف أن الحرب اشتعلت بسبب هذه الوثيقة ومضمونها الهادف الى الحد من التسلط الفردي الديكتاتوري؟ هل تدري بهذا أم لا؟ فإن كنت لاتدري فتلك مصيبة، أما إن كنت تدري وتعمد باصرار على تزييف الحقائق أمام القراء فلعنة التاريخ لاترحم!
ونخطو خطوة أخرى مع الدكتور المتوكل، فحين بدأت جماهير الجنوب الغاضبة تنتفض في وجه الطغاة وتعلن عزمها وإصرارها على انتزاع حقوقها وطرد المحتل واستعادة سيادتها على أرضها وثرواتها المنهوبة وواجهها نظام المحتل بالنكران والقمع والإرهاب، توجه المتوكل الى رئيسه فزعا صارخا: "جاه الله عندك يارئيس"، متمنياً عليه أن يقدّم شيئا من الفتات للجنوبيين من ثروات وطنهم وخيرات أرضهم من أجل الإبقاء على الجنوب وثرواته ملكاً للشمال، ولكي "يسحب البساط من تحت كل من يسعى للمكايدة ويعمل بدافع الخصومة لا بدافع وطني ". نعم، هكذا يفكر المتوكل في حراكنا الجنوبي العظيم : إنه عمل غرضه المكايدة وليس له من دافع وطني!
وأخيراً وحين قلّت حيلته وفقد الأمل في استجابة رئيسه لنصائحه الماكرة وحين رأى الشوط الطويل الذي قطعته انتفاضتنا المباركة على طريق الخلاص وأدرك عزم شعبنا على التحرر الكامل من الإحتلال الشمالي، أخذ هذه المرة يوجه نصائحه الينا بأسلوب خبيث محذراً لنا من المآل الذي سيؤول اليه وضعنا فيما لو خرجنا عن الطاعة ومشينا نحو الإستقلال. واليكم كيف يتحدث عن أبناء الجنوب وحراكهم السلمي في مقاله الموسوم "ويسألونك عن الجنوب" المنشور في صحيفة "الأيام": " في مسيرتهم ضباب، اختلطت الألوان أمامهم، حالة الغضب أفقدتهم التمييز بين الصديق والعدو، والظالم والمظلوم، والحق والباطل، والخطأ والصواب، تركز همهم على الخلاص مما هو قائم بصرف النظر عما هو قادم. تبخرت عندهم الآمال وهاجت مشاعر الكراهية فنادوا بالخلاص دون رؤية واضحة وخطوات محسوبة وإذا بهم في كل مرة يبكون على الزمان الذي بكوا منه".
هذه هي خلاصة مايريد الدكتور المتوكل قوله: إذا طلبنا الإستقلال وفك الإرتباط مع نظام الشمال فسيأتي يوم نبكي فيه على زمن رئيسه علي صالح الذي نبكي منه اليوم.
وبدورنا نقول له: لنفرض أن الصورة غير واضحة أمامنا، وأن شعبنا لايدري مايريد، ولايميز بين الحق والباطل، ولا يدرك الخطأ من الصواب، وأننا قد نختلف غداة الإستقلال بل ونتقاتل فيما بيننا نحن الجنوبيين فما هي الصورة البديلة التي تقدمونها لنا أنتم في الشمال؟ هل هي صورة الحرب المدمرة في صعدة والجوف ومارب وحرف سفيان وعمران وبني حشيش؟ هل هي صورة الاختطافات وانعدام الأمن والإستقرار التي صارت حديث العالم شرقه وغربه؟ ماذا لديكم من صورة حضارية تجعلنا نقبل بالبقاء تحت نظامكم؟ أهوالقتال داخل عاصمتكم على الأراضي، أو طلب الثارات في أسواق صنعاء وحاراتها وأزقتها، أو حرق المنازل وهدمها فوق رؤوس ساكنيها دون عودة لقضاء أوقانون أو دولة ؟ أهو تشريد المواطنين على أيدي المشائخ كما حصل لأبناء الجعاشن، أو مداهمة حرم الدولة وقتل الخصوم داخلها كما حصل للرعوي في إب؟
إن من يريد أن يوجه نصيحة لشعب الجنوب فإن عليه أولا أن يقرّ بأن الحرب التي شنها نظام صنعاء ضدنا كانت حربا عدوانية، آثمة، هدفها السيطرة على الجنوب ونهب ثرواته وتشريد أهله. وهذا مالم نسمعه حتى اليوم من الدكتورالمتوكل. كما أن على من يريد أن يقنع شعبنا في الجنوب بالبقاء في الوحدة عليه أولاً أن يحرك جماهير الشعب في الشمال للمطالبة بحقوقها وإسقاط نظام العدوان والفساد. على هؤلاء السياسيين " الناصحين" و "الحريصين" على الوحدة أن يفعلوا ذلك ويتقدموا الصفوف ويواجهوا بإيمان الشجعان الأقوياء، وبعزيمة المحبين المخلصين لوطنهم، قوى الطغيان المركزي المزودة بكل ترسانتها من هراوات وقنابل مسيلة للدموع ورصاص حي.
هذا مايفعله قادة الجنوب، فقد تقدموا الصفوف وواجهوا أجهزة القمع بصدورهم العارية، وتعرضوا للسجون والتعذيب ولهذا وثقت بهم الجماهير وحملتهم على الأعناق وسارت خلفهم.
فتوكل على الله يامتوكل وتقدم الصفوف واعلم أن موقفاً عملياً واحداً كهذا منك ومن غيرك من السياسيين الشماليين سيكون مقنعا لنا بالبقاء معكم في الوحدة أكثر من ألف مقال من الخطب والنصائح الجوفاء التي توجهها الينا.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ". صدق الله العظيم
الدكتور فارس سالم الشقاع
أبوظبي – الإمارات
12 مايو 2009