كتب/داوود البصري*: يخوض شعب الجنوب العربي اليوم و إستمرارا لمعاناته المستمرة من نتائج الإندماج المستعجل و غير الناضج مع شمال اليمن نضالا يوميا دمويا رهيبا من أجل تصحيح الخطأ التاريخي و الجناية الكبرى التي إقترفت تحت بند النوايا الحسنة بحقه؟ وهو يدفع اليوم الدم العبيط في مواجهات الشارع في مدن الجنوب العربية المحتلة في عدن و أبين و الضالع و شبوة و حضرموت، ويقاتل جاهدا من أجل كنس التخلف و طرد الطفيليات التي جاءت مع الإحتلال و اهمها التنظيمات الدينية و الظلامية المتطرفة من خوارج القرن الحادي و العشرين من جماعة القاعدة العميلة و أشباهها من الذين لا تنسجم معتقداتهم و عقلياتهم الديناصورية المتحجرة مع أفكار التسامح و الإنفتاح و مع الطيبة التي يتميز بها عموم أهل اليمن و يختص بها أيضا أهل الجنوب العربي أصحاب السمعة التاريخية العطرة في المهاجر و المنافي من المكافحين الذين حملوا بحب و تسامح راية الإسلام الحضاري الحنيف و نشروها في الربوع الآسيوية و في منافيهم حتى غيروا وجه الخارطة الحضارية و الدينية في العالم.
وشعب أبي عربي حر بهذه المواصفات لا يمكن له أبدا أن ينحني أو يخضع لأي نكسة طارئة أو لأي كبوة عابرة وهو الشعب الذي ناضل طويلا ضد الإحتلال البريطاني منذ عام 1839 و حتى يوم إنفجار ثورته الشعبية الكبرى في 14 أكتوبر 1963 ووصولا للنصر الوطني الناجز و التخلص من الإحتلال البريطاني في 30 نوفمبر 1967 في ظل ظروف صعبة و شاذة و حالة فظيعة من عدم الإهتمام العربي و الدولي بالدولة الجديدة الناشئة التي شيدتها سواعد الأحرار بعد ثورتهم الوطنية الكبرى، فلم تلق جمهورية الجنوب العربي في اليمن وقتها المساندة إلا من مصر و سوريا و الإتحاد السوفياتي السابق، ومع ذلك ظلت حريصة على عروبتها و إنتماءها الحضاري رغم قوة الضغوط الهائلة في عز مرحلة الحرب الكونية الباردة و التي أفرزت أوضاعا داخلية كانت السيادة فيها بحكم طبائع الأمور و ماكان سائدا في العالم وقتها من تكتلات لأهل الأفكار الإشتراكية، وقامت دولة الحزب الواحد وهو الحزب الإشتراكي اليمني الذي كانت ساحته مفتوحة لجميع أبناء اليمن مما مكن العديد من شباب شمال اليمن من الدخول في الحزب بل الوصول لأعلى مراتبه القيادية و توجيه دفة السفينة السياسية و الفكرية في الجنوب العربي نحو قناعات تم إستثمارها مستقبليا في تحقيق وحدة إندماجية مستعجلة لم تكن توفر ضمانات حقيقية لإستمراريتها فضلا عن نجاحها، لقد دخل جنوب اليمن معركة سياسية هائلة من أجل تحقيق وحدة حقيقية و حضارية لكامل التراب اليمني و كانت نواياه صادقة و أصيلة في الوصول لذلك الهدف الحضاري الكبير بعد أن تأسست في الجنوب دولة يمنية مدنية حديثة مجتمعيا و منفتحة و بأفكار إشتراكية وفقا لما كان سائدا من مناهج في تلك الأيام.
و من أجل التسريع في تحقيق حلم الوحدة اليمنية المقدس دخلت جمهورية جنوب اليمن في مفاوضات مختلفة كان أولها حسب ما أتذكر إتفاقية القاهرة في 13 سبتمبر 1972 بين رئيس وزراء الجنوب علي ناصر محمد و نظيره الشمالي محسن العيني، ثم تم التوقيع على بيان طرابلس في نوفمبر 1972 بين الرئيس الجنوبي سالم ربيع علي و الشمالي عبد الرحمن الإرياني، ثم تدهور الموقف و أندلعت المناوشات بسبب حالة الفوضى السياسية في الشمال و إندلاع الحرب بين الدولتين بعد أزمات داخلية عاصفة أدت لمصرع الرئيس الشمالي أحمد حسين الغشمي و لإعدام الجنوبي سالم ربيع علي في صيف 1978 ثم دخول الوساطات العربية لتهدئة الأمور فكانت إتفاقية الكويت التاريخية في 29 مارس 1979 بين الرئيس الجنوبي عبد الفتاح إسماعيل و الشمالي علي عبد الله صالح، ثم دار الزمن دورته و تطورت الأوضاع الدولية و الإقليمية و قاربت الحرب الكونية الباردة على نهايتها و دبت الأزمات العنيفة الشخصية و المنهجية بين الرفاق في الجنوب و توتر الموقف الداخلي على خلفية وجود حزب واحد حاكم فقط لا غير لا يسمح بأي مسار ديمقراطي مغاير لمعرفة وجهات رأي شعب الجنوب العربي و حدثت أحداث 13 يناير 1986 الدموية المريعة التي تقاتل فيها قيادات الحزب الإشتراكي المتكتلة شمالا وجنوبا بعد عملية ( المصيدة ) في اللجنة المركزية للحزب الإشتراكي و التي ذهب ضحيتها عدد كبير من قيادات الحزب و الثورة المسلحة السابقة و في طليعتهم عبد الفتاح إسماعيل و علي عنتر و العشرات من القياديين فيما نجا بأعجوبة من الموت الرئيس علي سالم البيض الذي إستلم دفة السلطة بعد التصدع الكبير وهروب الرئيس علي ناصر محمد و مجموعته وهي أحداث مؤلمة جدا لم نكن نود التطرق لها لولا الضرورة التاريخية و أحكام التاريخ الذي لا يجامل أحدا، و كانت المسافة التاريخية بين أوائل 1986 و مايو 1990 قصيرة للغاية و لكنها حملت متغيرات دولية هائلة و تاريخية و حاسمة شكلت منعطفا هاما في إتخاذ قرار الوحدة الإندماجية الإستعجالية مع الشمال بدلا من القرار المرغوب شعبيا وهو الإتحاد الفيدرالي الذي كان يجب أن يمر بفترة إنتقالية لتوطيد مؤسسات دولة الوحدة وضمان العدالة و الإبتعاد عن الإستئثار و الهيمنة إلا أن قرار قيادة الحزب الإشتراكي اليمني الحاكم في الجنوب بتحقيق الوحدة الإندماجية كان خظئا تاريخيا كبيرا لم يأخذ العبرة أبدا من قرار الوحدة الإندماجية المصرية / السورية لعام 1958 و التي توجت بالفشل عام 1961، فنتيجة لعدم وجود الديمقراطية و حرية التعبير الحقيقية في دولة الجنوب بعيدا عن رؤية و أفكار قيادة الحزب الواحد وقعت الكارثة و التي يعاني منها اليوم بشراسة أهل الجنوب و الشمال على حد سواء، وحيث تحققت الوحدة الإندماجية في 22 مايو 1990 و كان مؤتمر قمة بغداد الإنفجارية في 28 مايو 1990 و الذي حضره وفد يمني موحد ضم الرئيسين علي عبد الله صالح و علي سالم البيض الإطلالة الدولية الأولى لليمن الموحد الجديد و المختلف الرؤى، ففي ذلك المؤتمر بالذات برزت ظواهر الإنفجار الإقليمي الكبير القادم وحيث كان صدام حسين يهدد وقتها كما نتذكر جميعا بقطع الأعناق و لا قطع الأرزاق!! وكان ذلك العرض المسرحي التخويفي إيذانا بموضوع جريمة غزو الكويت بعد أسابيع من إنفضاض أعمال ذلك المؤتمر في 2 أغسطس 1990، وكان واضحا منذ البداية بأن قيادة الشمال اليمني من المعجبين بقيادة صدام حسين بل من المروجين لها و العاملين لمصلحتها و المنسقين لخياراتها، كما كان لشمال اليمن دور تعبوي مهم في الحرب العراقية / الإيرانية تميز في معارك الشوش/ ديزفول في ربيع 1982 و حيث قدم القوات اليمنية المشاركة في جبهة الحرب خسائر واضحة و كبيرة أمام القوات الإيرانية المندفعة وقتذاك، بينما كان موقف قيادة الحزب الإشتراكي في دولة الجنوب اليمني حذرا و متوجسا للغاية من نظام البعث العراقي الذي دخل في مواجهات عقائدية و أمنية و إستخبارية ضد جمهورية جنوب اليمن بسبب مساندة قيادة الجنوب للحزب الشيوعي العراقي المضطهد و كذلك مساندة الجماعات الفلسطينية المختلفة، و سبق لحكومة البعث العراقي البائد أن إصطدمت كثيرا بالمواقف اليمنية الجنوبية الرافضة لإرهاب و إبتزاز حكومة العراق و جاءت مصيبة غزو الكويت لتفرز واقعا إنقساميا واضحا فحكومة الشمال كانت مؤيدة بالمطلق و الكامل لحكومة العراق؟ بينما حكومة الجنوب ورموزها كانت لها تحفظاتها الحقيقية و تجربتها الصعبة و المعقدة وكانت رافضة للغزو العراقي بكل صيغه و أشكاله!!، ورغم نهاية أزمة الغزو بإندحاره التام و تسوية الأمور إلا أن مافي النفوس قد بقي يتفاعل خصوصا و أن مخططات و أفكار نظام البعث العراقي كانت تتردد وحاضرة في حكومة الشمال وبدأت الحرب الخفية و السرية ضد قيادات الحزب الإشتراكي من خلال حملة الإغتيالات المستمرة و الرهيبة، كما بدأت المناورات السرية و الإستخبارية لإفراغ إتفاقيات الوحدة من مضامينها وفق لمخطط مبرمج من ذي قبل و بشكل لا تخطيء العين الخبيرة قراءة دلالاته، فبدأ الفشل الواضح في المسيرة الوحدوية المترافق مع إستعداد شمالي و تعبئة ستراتيجية قوية من أجل حسم الموقف و إبعاد القيادات الجنوبية التي صنعت الوحدة الإندماجية و تورطت في فخاخها المسمومة و من ثم الإستئثار و الإنفراد بحكم اليمن ووفق مخطط كان واضحا أنه يستند لتاريخ تآمري و مراوغ برع فيه نظام بعث صدام حسين و تميز!! و فعلا تسنى لقيادات الشمال إعلان قرار الحرب ضد قيادات و أهل الجنوب العربي و الحزب الإشتراكي في 27 إبريل / نيسان 1994 و لم تنفع أبدا معاهدة عمان ( وثيقة العهد و الإتفاق ) في تليين الموقف ثم تبعه إعلان الرئيس علي سالم البيض بعد أسبوعين من قرار الحرب بفك الإرتباط مع الشمال و إعادة دولة الجنوب و لكن الوضع الميداني و اللوجستي كان في غير صالح هذا القرار فقد إنتهت الحرب الشرسة و العدوانية ضد الجنوب في يوم 7/7/ 1994 بدخول عدن و إستباحتها بالكامل و فرض منطق الإحتلال مع الوعود الحكومية بالمن و السلوى وهي وعود وهمية لم تتحقق أبدا! وهنا ظهر تأثير عملية التخادم السياسي و الأمني لحكومة الشمال التي إعتمدت بشكل حاسم و فاعل على القدرات العسكرية العراقية في المجال الجوي و الصاروخي و قيادة المدرعات رغم البطولة الكبيرة لجيش الجنوب العربي في معارك قاعدة ( العند ) الإستراتيجية و غيرها إلا أن إستعداد الشمال وقوة زخم التآمر من أجل الإلتفاف على الوحدة و إبعاد القيادات الجنوبية و تهميش قيادات الجنوب العسكرية كان عاملا حاسما في كسب الجولة و إستمرار القهر الذي نهض شعب الجنوب العربي اليوم بشبابه و صغاره الذين لربما يجهلون العديد من صفحات تاريخ بلادهم لكن إيمانهم بهويتهم و عدالة قضيتهم و معاناتهم الرهيبة من سياسات التهميش و الحيف و الظلم و القمع و تسلط قوى التطرف المتوحشة قد حركت فيهم عامل المقاومة الذي سيؤدي في النهاية لا محالة لتصحيح التاريخ لأن الفاشيين سيهزمون لا محالة مهما بدت الظواهر السطحية معاكسة لذلك، فالدم يظل أبد الدهر أقوى من السيف و الطغاة لا يتعظون أبدا و يكررون بحمق واضح نفس منهجية أسلافهم، إعادة الحياة لجمهورية جنوب اليمن أضحى اليوم أمرا واقعيا و منطقيا وهو مسألة وقت فقط لا غير؟ ولكن السؤال الكبير أي جمهورية و أي نظام؟ وهل ستعزز تجارب الماضي المرهقة من مناعة و تحصين القادة الجدد للجنوب العربي الذين سيتعينون بخبرة الكبار و القادة التاريخيين للثورة و الدولة لا محالة؟ هل ستكون الديمقراطية الحقيقية هي الرد الحقيقي على دولة القهر و الفشل و قمع الأفواه و حجر الآراء...
لقد قدم الشعب في الجنوب العربي ملاحم نضالية هائلة وهو يستحق قيام كيان حضاري ديمقراطي يعوض سنوات الفشل و ينهض بعقود البناء و التنمية، فالجنوب العربي الأبي على موعد صادق و حاسم مع التاريخ... و من نكسات الماضي و إخفاقاته ستتولد طاقة كفاحية و إيمانية لبناء الغد المشرق في الجنوب العربي.
(عن صوت العراق)
*صحفي من العراق.