نحتفي بأكتوبر كثورة حقيقية شهد الجنوب بميلادها تحولا تاريخياً كبيرا انتصر فيه لقيم الدولة الوطنية ، القائمة على المدنية والمواطنة المتساوية وسيادة القانون .
يمكن القول أن ثورة أكتوبر حققت أهدافها الوطنية ببراعة ... وأن قيمها رأت النور ، وعاشها شعبنا في الجنوب واقعاً حقيقياً ذاقوا حلاوته ونعموا به .
إن المعيار الأهم لقياس نجاح الثورات يتحدد بمدى تحقيق مبدأ العدالة والمواطنة المتساوية وسيادة القانون في الدولة الوطنية الحديثة ، وهو ما تحقق بشكل لا يزال يثير الإعجاب خلال الفترة التي أعقبت الاستقلال حتى عشية الاندماج في دولة الوحدة ، ولولا الانتكاسة التي حدثت لاحقا لمشروع دولة الوحدة الناتج عن ممانعة الشمال لقيم المدنية ورفضه لمبدأ سيادة القانون والمواطنة المتساوية لكنا لانزال ننعم ببركة ذلك الانجاز .
،لقد شرعت الدولة الجديدة بعد الاستقلال في وضع أسس الدولة الوطنية الحديثة ، وكانت المواطنة المتساوية وسيادة القانون هما الأساسان والإنجازان الأكثر روعة التي استطاعت ثورة 14 اكتوبر ارساءهما وتحقيقهما ، وبرغم كافة المعيقات والمخاطر المحدقة والمتربصة بدولتهم إقليميا ودوليا فقد كان هناك نجاحاً كبيراً في بناء الدولة الوطنية الجديدة على أنقاض أكثر من ثلاث وعشرين سلطنة وإمارة ومشيخة.
إساءة استغلال السلطة والفساد العام كان معدوماً في دولة الجنوب خلال فترة جميع الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم ، في دلالة واضحة على التزام صارم بقيم الرشد في الإدارة .
ما حققته ثورة أكتوبر من تحولات اقتصادية اجتماعية وثقافية حقيقية في كل قرية وسهل ومدينة ، حين انتصرت لقيم الحداثة والتنوير وانحازت لمصالح الفقراء ، وحققت العدالة الاجتماعية بين المواطنين .. فراحت تعمم التعليم وتنشر الخدمات الصحية المجانية ، جاعلة من العمل حقا دستوريا لكل مواطن .
لقد تجلت مدنية الدولة الوطنية في الجنوب بصورة واضحة في النظرة المتقدمة للمرأة والانحياز لقضاياها ، وما أفضت إليه عمليا من تمكين للمرأة أدى إلى حصولها على كامل حقوقها الإنسانية والانخراط في المشاركة السياسية والاجتماعية على قدم المساواة مع أخيها الرجل سواء بسواء، فلا فيتوا اجتماعي على خروجها ولافتاوى دينية تجعل منها عاراً وخزياً يتعين أن يتوارى وراء الجدران كما هو حاصل في الشمال في تخلف اجتماعي وأخلاقي مريع يزداد قبحا يوماً بعد يوم حين يعزز بالفهم التقليدي المغلوط للدين.
حين نقارن ماتحقق للمرأة في ظل الدولة الوطنية في الجنوب قبل ثلاثين عاما من الآن وما منيت به من انتكاسة في ظل دولة الوحدة اليوم نشعر كم هي الخسارة الناجمة عن تغول القوى التقليدية الممانعة، وتسيد التخلف الاجتماعي الشامل على حساب منجزات الدولة الوطنية في الجنوب .
يكفي أن نعقد مقارنة فقط بين التداولات السمجة التي تدور في مجلس النواب اليوم حول قانون الأحوال الشخصية والتي يجري طرحها برعونة وحمق منذ عام ولم تفلح كل جهود الحركة الحقوقية في انتزاع تقنين يجرم الزواج بالقاصرات ويضع حدا لمنتهكي الطفولة.
في حين كان قانون الأسرة الذي أنجز قبل أكثر من ثلاثين عاما في الجنوب قانونا متقدما إلى درجة تثير الإعجاب ، وحين يتم مقارنته بأكثر القوانين مدنية التي أنجزت في المنطقة فانه لايزال يحقق الريادة والسبق عليها ..من حيث ماتضمنه من حقوق للأمومة والطفولة ومن إعلاء لكرامة المرأة إلى تحديد لسن الزواج وإعطائها حق الولاية في الزواج ، إلى وضع القيود على تعدد الزوجات وغيرها من المواد التي احتواها قانون الأسرة في الجنوب والذي يتناغم مع كافة المعايير الحديثة حول قوانين الأسرة والطفل .
من الظلم لمنجزات ثورة 14 أكتوبر وتضحياتها ، التكرار الدائم لما يتردد من ترهات حول مجازر جماعية وقتل بالهوية ارتكبت في الجنوب كل شيء يشير الى انها أرقام مبالغ فيها، أنا لست ابرر لها هنا ، لكنني ارفض الانتهازية المفرطة التي يجري فيها تجسيم أحداث العنف في الجنوب بخبث شديد لتبرير جهوية نظام دولة الوحدة وتسويغ فشله الكبير ، وأدرك كم تحاول القوى والمراكز الرافضة لسيادة القانون والمواطنة المتساوية المعادية لقيم المدنية والحداثة ، والتي اغتالت منجزات ثورة اكتوبر إلهائنا بالحديث عن مجازر ووجبات عنف ابتلي بها الجنوب قبل الوحدة .. وبعبث مكشوف يحاولون أن يواروا سوءات صراعاتهم المناطقية والقبيلة التي لم تتوقف يوما ولا أظن أنها ستعطينا أي استراحة خلال العقود القادمة !!
من الظلم أيضا لثورة اكتوبر القول بأنها مجرد امتداد لثورة سبتمبر في الشمال، كيف تكون امتداد لثورة فشلت في تحقيق أي من أهدافها ولم تفلح في احداث أي تغيير او تحول اجتماعي بقدر ماكانت الأيام تزيد التمايز الطبقي اتساعا والقوى التقليدية سطوة ، والفساد انتشارا ، وتبتعد بالدولة والمجتمع كثيرا عن مضامين الدولة الحديثة والمجتمع المدني ، ونحن اليوم أمام دولة فقدت بالكامل كافة عناصر الدولة الحديثة ومجتمع التبست عليه القيم .
إن في ثورة اكتوبر وماتلاها من انتصار لمبدأ سيادة القانون وقيم المدنية والمواطنة المتساوية مايدعونا للاصرار على رفض كل ماتم من عملية تفريغ لها وتحويلها الى مجرد مناسبة سنوية لا روح فيها ولاحياة !
ان رفضنا لحرب إقصاء الجنوب .. أو حرب الارتداد عن الوحدة التي كان عليها أن تقوم على الشراكة والعدالة والانصاف ..، هو بصورة أخرى رفض لمحاولة الاحتواء والتدمير لمنجزات ثورة اكتوبر ووفاء لمشروعها الانساني وأهدافها النبيلة.
يمكن القول ان زخم الاحتجاجات في الجنوب وما تشهده من تصعيد متنام واستعصاء يثير الإعجاب هو احد تجليات القيم المدنية المتأصلة لدى شعبنا في الجنوب والتي ذهبت للتعبير عن عدم القدرة على التعايش مع الاحتواء والتدمير الهائل الذي تم الحاقه بثورتهم وانجازاتها العظيمة.
واليوم ونحن نشهد هذا التغول والتدمير لكافة القيم الحديثة ونشهد الفشل الكامل لمشروع الوحدة التي ارادها الجنوبيون ، الوحدة التي يسودها الشراكة العادلة والمواطنة المتساوية ،والتي أحيلت إلى مجرد استحواذ واستيلاء وضم والحاق، يجعلنا نؤمن أكثر بأن الجنوبيين يمتلكون اليوم المشروعية الأخلاقية لان يطالبوا بما شاؤوا من الخيارات .. ان فشلت جهودهم وجهودنا في استعادة الشراكة واقامة دولة الوحدة على اساس من العدالة والانصاف .
وفاء لثورة اكتوبر وقيمها العظيمة وبعدها الانساني نعلن مساندتنا الكاملة لشعبنا في الجنوب معقل الثورة ومهبط قيمها العظيمة .. لا نملك الخيار الا ان ننحاز لمطالبهم دون شروط ، والى مساندتهم دون تردد ودون وصاية ، وأن ندين مايتعرضون له من انتهاكات وقمع وقتل وطغيان .