"لقد كنا نعتقد أن الحرية والديمقراطية هما أن يكون من حق الناس، كل الناس، التعبير عما يرونه ملائماً لحياتهم من دون أن يطغى أحد على أحد، وصار علينا أن نفهم أنها حرية حفنة صغيرة من البشر في أن تقولب الحياة والتاريخ والمستقبل كما تشتهي على حد ما تعرف وبمقدار ما تعرف فحسب، الاختلاف ممنوع، والاطلاع على الحقيقة ممنوع، والرأي الآخر مؤامرة".
هذه استهلالية لابد منها تجاه ما كتبه (الثوري الجديد) علي ناجي الرعوي، في (مؤخرة) أحد الصحف اليومية في عدن، وفيها تجنى على الحرية، والديمقراطية والحقيقة وجعل من نفسه سيد العارفين فقط، وما غيره فهم من المأجورين، يعانون أزمة ضمير!
الرعوي في مقاله المنشور"ليست أزمة هوية..وإنما أزمة ضمير" ذكّرني بذلك الزوج المخدوع، آخر من يعلم، وأول من يتضرر، ويبدو أن فترة نقاهته وتقلبه ذات اليمين وذات الشمال على سرر صحيفة "الثورة" الرسمية أنسته كثير من الحقائق التي يعترف بها أبناء الشمال كافة، إلا الرعوي ومن على شاكلته، وكأنهم مجرد زائدة دودية كانت تؤدي وظيفة هامة لجسم نظامه السياسي العفن، سرعان ما انقطعت.
هو لديه تحسس "من مناصفة التمثيل بين الجنوب والشمال على طاولة الحوار الوطني، وسر تحسسه خشيته "لتصوير ما يحدث في اليمن وكأنه صراع بين كيانين وبين هويتين ونسيجين اجتماعيين وأن الحوار ليس حوارا داخليا وإنما تفاوض بين طرفين لكل منهما قضاياه وأجندته المختلفة عن الآخر"!
أليس ما يحدث بين الشمال والجنوب هو ترجمة حقيقية لما قاله هذا الرعوي؟! إلى متى سيستمرون في غيهم وضلالهم المبين؟ إلى متى سيغُيبون التاريخ؟!
الم تعلن الوحدة اليمنية في 22 مايو 90م بين دولتي الجمهورية العربية اليمنية، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية؟ وقتلتها حرب صيف 94، لتخلق واقعا مأزوماً أسوأ من علقم الاحتلال؟!
يقول مفكّر الجنوب د. محمد حيدرة مسدوس: "لقد ظلت صنعاء منذ انتهاء الحرب وما زالت تنكر على الجنوبيين جنوبيتهم وتفرض عليهم نكرانها بالقوة، وأصبحت ترفض المفهوم الجغرافي والسياسي للوحدة وتقول إنها وحدة وطنية وليست وحدة سياسية بين دولتين..وهذا في حد ذاته هو نكران للوحدة ورفض عملي لها، فعندما تنكر صنعاء على الجنوبيين جنوبيتهم وتعاقبهم عليها وهم كانوا دولة ذات سيادة، وعندما تقوم بطمس هويتهم وتاريخهم السياسي لصالح الشمال وتنهب أرضهم وثروتهم وتحرمهم منها...فإنهم مضطرون للدفاع عن وجودهم ومضطرون للنضال من اجل استعادة أرضهم وثروتهم المنهوبة، ومن اجل استعادة تاريخهم السياسي وهويتهم المطموسة، باعتبار ذلك حقا مشروعا لهم تكفله الشرائع السماوية والوضعية، فلم يحصل في التاريخ لأي شعب أن يذهب إلى التوحد مع غيره ليلغي نفسه وهويته وتاريخه السياسي ويسلّم أرضه وثروته لغيره"!
يواصل علي الرعوي غيه إسقاطاً للتاريخ برشفتي من كوب الشاي (الأحمر) لينقله خارج سجن تفكيره المغلق المتعفن بإلغاء الآخر والنرجسية المريضة:
"فما تخوفنا منه قد حدث، حيث سارعت بعض العناصر الانفصالية إلى اعتبار مبدأ (مناصفة التمثيل) ليس أكثر من إقرار بالتنافر الحاصل بين الشمال والجنوب وان هذا التنافر لن يعالج إلا من خلال الانفصال وليس الوحدة..والأكثر من هذا فقد وجد هذا الطرح البائس والمتطرف من يروج له في وسائل الإعلام وفق تأصيل يقوم على دحض يمنية الجنوب والقول بأن الوحدة اليمنية لم تقم بين شعب واحد في دولتين وإنما كانت بين دولتين وشعبين مختلفين في الهوية والتاريخ والحضارة والثقافة"!
وفي هذا أرد عليه بقول المحامي شيخان الحبشي، الأمين العام لرابطة أبناء الجنوب العربي:
"إن الرابطة تؤيد فكرة توحيد القطرين الجنوب العربي واليمن، لا على أساس أن الجنوب تابع وخاضع لليمن أو بعض منه، أو أن عرب الجنوب ينتسبون إلى العرق اليمني، بل على أساس قطرين عربيين متجاورين".
قال الرعوي في جزئية أخرى: "..يقتضي التحلي بالوعي والإدراك بان سرطان الانفصال.."!
قد يكون الانفصال مثلما يروج له- والأصح فك الارتباط بالمفهوم الدولي، بالنسبة لأبناء الجنوب- يعد سرطاناً، فهذا شانه، ووجهة نظر، نحترمها، لكن هناك من يعتبر فك الارتباط بلسماً شافياً من أمراض وعلل صُدرت للجنوب بكميات تجارية، تحتاج لمئات السنيين، حتى يتم التخلص منها ومن رواسبها النتنة المميتة.
أنتقل الرعوي إلى خانة جديدة من (حانات) الحرص على وحدته، وهاجم "البيض والعطاس وباعوم" ويا للغرابة هنا... وجه اللوم "لعشرات الأحزاب التي تملأ يافطاتها شوارع العاصمة والمدن الرئيسية تتصدر المشهد السياسي اليمني فيما هي تلوذ بالصمت تجاه ما يصدر عن البيض والعطاس وباعوم من هراء وأكاذيب وزيف وتطاول على هوية ابنا المحافظات الجنوبية..."!
لن أخوض في تفاصيل الهذيان، فالثورة والحراك الجنوبي أشعلها الشارع الجنوبي كافة، وأحزاب الغفلة من يريدها لجم الأفواه، هي أول من وقفت ضد تيار الحراك وقياداته، ونشكرها كثيراً على صنيعها، لأنها بتراخيها عن نصرة المظلومين، جعلت المحتجون يتزايدون ويتوالدون، حتى امتلأت بهم ميادين الحرية، ومعها زادت القناعات بعدم الجدوى في وحدة التهمت الجنوب وحولته إلى تابع ذليل كما تريد النخبة الحاكمة، ومن سار على نهجها...فليدع الرعوي شأنه من الجنوب وقادته، فهم كفيلون بإدارة أمورهم، والشارع يهتف بأسمائهم، فهل أزعجتكم تلك الأصوات؟!!.
يؤكد د. محمد مسدوس أن الحرب قد أسقطت مشروع الوحدة وفكت الارتباط بين الشمال والجنوب في الواقع وفي النفوس، وان الوضع القائم في الجنوب منذ الحرب ليس وحدة وإنما هو اغتصاب بقوة السلاح، وهو لذلك أسوأ من الاحتلال، ويضيف من حق شعب الجنوب أن يرفض هذا الوضع وان يقرر مصيره بنفسه دون وصاية عليه، ولا يمانع من أي حل يأتي به طرف دولي أو إقليمي أو حتى صنعاء ذاتها شريطة أن يؤخذ شرعيته من شعب الجنوب".
قال أحد الكتاب: "الزمن بالنسبة للمنفي متوقف ابتداءً من اللحظة التي أصبح فيها منفياً" وهذا لسان حال علي ناجي الرعوي، إذ هبّت عليه ثورة الشباب وأطاحت به من كرسيه المهترئ، لتنفيه حيث يجد نفسه يهذي بالكلمات، كتسلية أو محاولة للقفز فوق الحواجز وإيجاد موطئ قدم مع الراكبين الجدد. نعم هي مسألة ضمير، والدليل أن خروجه من "الثورة" جعل خزينتها خالية الوفاض، ولم يترك فيها شيئا، حتى مناديل (الكلينكس) كنسها مع (المكنسين)!.