شبكه باعوضه -الشرق الاوسط
لست أدري لماذا حظ «الجنوب» دائما ما يكون أقل من حظ شقيقه الشمال؟!
لماذا الشمال مرتبط، غالبا، بالرخاء والتفوق، والجنوب بالشقاء والتقهقر؟! حتى في توسعات المدن، تجد الاتجاه، غالبا، نحو الشمال، بينما تكون أحياء الفقر أو القريبة منه، من نصيب الأخ المقهور: الجنوب!
ربما لدى علماء تخطيط المدن جواب ما، أو لدى آخرين من المتخصصين بالمناخ وحركة الرياح وجاذبية القطب الشمالي، أو غيرهم ممن لديهم القدرة على جواب الشمال والجنوب.
لكن من الصعب أن يجيب هؤلاء، وحتى علماء السياسة والاجتماع، عن اختصاص مناطق الجنوب العربي في كثير من الأحيان بالأزمات.
في لبنان الآن، الأزمة تتركز في جنوب لبنان معقل الحزب الإلهي. في العراق كان الجنوب أيام البعث العراقي أزمة وهو يتعرض لقمع سلطة بغداد، وهو الآن منبع رجال الحكم في بغداد من المالكي إلى حلم الحكيم في فيدرالية الجنوب الشيعي. في السودان لدينا جنوب يستعد للانفصال عن الشمال السوداني.
أما في اليمن، وهو مناسبة حديثنا، فأصبح جنوبه نبع المشكلات، من حراكه الجنوبي إلى مهرجان «القاعدة» في محافظات الجنوب، خصوصا أبين، التي أصبح من شبه المعتاد أن نسمع عن عمليات «القاعدة» فيها وفي عدن، عروس الجنوب اليمني، كما نسمع عن عمليات العراق!
هناك استثناءات لهذه الجهوية التأزيمية، فشمال العراق الكردي شاطر هو الآخر جنوبه في التأزيم سابقا، لكنه الآن يحظى باستقرار وسلطة واستقلال تحسده عليه جهات العراق الأربع. وفي اليمن يسعى شماله الزيدي لئلا يستأثر جنوبه بالأزمات، لكنها استثناءات «شمالية» محدودة. وفي كل حال يظل اليمن كله جنوبا بالنسبة إلى السعودية ودول الخليج.
نظل في اليمن.. كم أستغرب لماذا هناك شعور بأن دول الخليج، التي هي شريكة اليمن في السكنى بشبه الجزيرة العربية، تهمله؟! وقد نادى كثيرون، ومنهم صاحب هذا المقال، بأن تكون هناك قمة خليجية خاصة باليمن، تسعى لإطفاء النار وإحلال النهار مكان ليل الأزمات. أقول ذلك رغم انعقاد مؤتمر الرياض قبل أشهر للدول المانحة لليمن الذي هو جولة ثانية بعد مؤتمر لندن الأول. وفيه حضور دولي غربي وخليجي بطبيعة الحال.
لكن ما يهم الغرب والعالم من اليمن، هو فقط، أو لنقل بشكل رئيسي، الهاجس الأمني، بعدما تحول اليمن إلى ساحة نشطة للجماعات الجهادية.
ما يجب أن يهم دول الخليج في اليمن أمور تتجاوز خطر «القاعدة»، دون أن تهملها طبعا، فخطر الميليشيات الحوثية المرتبطة بإيران، هو في الدرجة الأولى خطر ينال السعودية، وبعدها دول الخليج. مشكلة الجنوب اليمني ودعوات الانفصال عن صنعاء، مشكلة تعني سلطنة عمان المجاورة بشكل كبير، كما تعني السعودية أيضا. مشكلة القرصنة البحرية في خليج عدن، هي مشكلة تخص كل الدول المصدرة للنفط في الخليج، مثل الكويت وقطر والإمارات، وطبعا السعودية، التي تمر ناقلاتها بهذه المياه، ليست ناقلات النفط وحسب، بل كل الحركة التجارية البحرية.
باختصار، استقرار اليمن يعني دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، قبل أن يعني أي دولة أخرى في العالم البعيد والقريب.
من المفترض أن تنعقد دورة الخليج الكروية في اليمن، لأول مرة، إلا أن هناك حديثا قويا عن أن: «اتصالات سرية بدأت فعليا بين عدد من اتحادات كرة القدم بدول الخليج بهدف تأجيل (خليجي 20) المقررة في اليمن، لتقام في ظروف أفضل بسبب الهواجس والتطورات الأمنية الأخيرة التي شهدها اليمن، خصوصا مدينة عدن التي ستستضيف أحداث البطولة خلال الفترة من 22 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى الخامس من ديسمبر (كانون الأول) المقبلين»، حسبما ذكرت جريدة «الإمارات اليوم». ورغم حرص وزراء الرياضة الخليجيين على دعم صنعاء في هذا الأمر، فإن الهاجس الأمني الكبير يظل حاضرا. ونعرف كلنا الجدل المعقد الذي يدور منذ فترة لدى عواصم الخليج حول ضم اليمن إلى المجلس الخليجي، بين مؤيد ورافض ومتحفظ، لكنهم فضلوا الحل الوسط فقرروا إدراج اليمن إلى التجمع الخليجي على دفعات، وكان انضمام اليمن إلى المجال الرياضي الخليجي خطوة في هذا الطريق.
ليس سرا أن هناك تحفظات تنطوي على منطق قوي إزاء انضمام اليمن إلى الأسرة الخليجية، بعيدا عن العواطف، أولها اختلاف البنية السياسية لليمن، فهو نظام جمهوري، رسميا، بينما دول الخليج كلها ملكيات أو إمارات متوارثة، وهناك الاختلاف في الوضع الاقتصادي لليمن عن بقية دول الخليج، فهي الدولة الوحيدة في الجزيرة العربية التي لم تنعم بعوائد النفط، ونفطها شحيح يتركز في محافظة مأرب، وهناك الكثافة السكانية اليمنية مقارنة بدول الخليج، حيث يبلغ سكان اليمن وحده نحو 25 مليون نسمة. هذه الكثافة السكانية، معطوفة على الاقتصاد الضعيف، جعلت اليمن من أفقر الدول العربية قاطبة، ناهيك بالبطالة والفقر الحاد في اليمن.. الفجوة بين دول الخليج واليمن عميقة الغور.
ما هو الحل إذن؟!.. يترك اليمن لحاله؟!
حتى لو أراد بعض أهل الخليج ذلك من باب «للبيت رب يحميه»، فإنه من الخطورة الانجرار مع هذه الفكرة.. دعك من واجبات الأخوة والجيرة في الجزيرة العربية، فهذا كلام قد ينفع لبعض الوقت لكنه لا ينفع كل الوقت في ترسيخ الاندماج اليمني في المنظومة الخليجية، أو «الجزيرية»، سمها ما شئت.
ترك اليمن لحاله، أخطر وأكثر كلفة من الاهتمام به.
ما يجري الآن من صولة «القاعدة» المزعجة في جنوبه، والأنفاس الخمينية النجادية في شماله، والصيحات الانفصالية بضفافه على بحر العرب، كلها مجرد مقدمات للمصير الأسود الذي ينتظرنا جميعا إن نحن أهملنا اليمن.
أضرب مثلا فقط بخطر «القاعدة»، التي تريد تحويل اليمن إلى منصة إعداد وانطلاق لأعمالها ضد كل الدول، ليس السعودية فقط، بعدما صارت أفغانستان بعيدة المنال، وهدأت حدود العراق. وقد سمعت حديثا من شخصية سعودية «ثقة»، مفاده أن المشكلة الأمنية تحولت الآن، بشكل شبه كامل، إلى الحدود اليمنية، بعد خلاصنا من التسرب العراقي. وترى هذه الشخصية أن ثقل الخطر الإرهابي «القاعدي» تحول إلى اليمن، بوتيرة شبه يومية!
ماذا نريد أن نقول خلف هذا، وبعد هذا كله؟
يجب «المسارعة» إلى جعل اليمن، الذي يتوج الركن الجنوبي الغربي من الجزيرة العربية، على رأس اهتمامات السياسة الخليجية لحماية مصالحها الأمنية والاستراتيجية الكبرى، ولو على حساب أزمات شمالية أخرى، مثل أزمة لبنان «الخالدة»، مع أنه يمكن، بل هو الواجب، أن نهتم بهذه الساحات كلها في منظومة استراتيجية واحدة عنوانها: الأمن الكبير لدول الخليج والأمن العربي. لكن نقول ذلك على سبيل التنبيه لمدى أولوية «المسألة اليمنية» على ما عداها. حتى ولو قال الشمال: أغار من نسمة الجنوب!